الاستدلال الانفعالي
«عندما تمسك المشاعر زمام الأمور»
تبدو المشاعر لغزًا، كلما حاولنا حل جانب منه، أهدانا جانبًا آخر يضعنا أمام عجزنا تجاه هذا الشيء المجهول. يمكننا تشبيه المشاعر بالبحر، شاسع لا تستطيع التنبؤ به بدقة، لأن أمورًا كثيرة تتداخل في تحديد حالته، الجو والفصل والرياح. كالمشاعر، تؤثر فيها المواسم والظروف المحيطة وحالة الجسد. غامرةٌ كالبحر، لها القدرة على إغراقنا والإحاطة بنا وسحب أنفاسنا.
ولأن الفهم هو الخطوة الأولى للتعامل مع أي أمر مُحيّر، فمن أهم المفاهيم التي قد تعين على فهم سيطرة مشاعرنا، هو مفهوم "الاستدلال الانفعالي Emotional Reasoning" وهو تشوّه معرفي ضمن مجموعة أخطاء في التفكير صاغها آرون بيك Beck (1976) مؤسس العلاج المعرفي ويرى أنها تسبب الاكتئاب. يمثل الاستدلال الانفعالي خطأ في التفكير يجعلك تعتبر مشاعرك تجاه شيء يمثّل حقيقته، متجاهلًا الأدلة الواقعية المعاكسة. فشعورك بالغيرة تعني خيانة الآخر، وشعورك بالخوف من شيء تعني عدم قدرتك عليه، وشعورك بالذنب يعني خطؤك بغض النظر عن الواقع.
نحن لانستطيع الفصل التامّ بين الحقيقة الإدراكية والحقيقة العاطفية، أي بين الموقف وشعورنا منه، إلا أننا أحيانًا نُفرط في تلمّس الواقع من خلالِ مشاعرنا، فنتركها تفسّر لنا الواقع. وهنا المفارقة، أنّ بعض أقوى مشاعرنا معاكسة للواقع، مثل خوفنا من الفشل عندما نقترب من النجاح، أو شعورنا بازدياد احتمالية ترك الآخر لنا بعد ارتباطنا به، أو شعورنا بالتقصير في الأمور التي نهتمّ بها جدًا. كلها تعاكس الحقائق لكنها تعرّف المرء بأقصى مخاوفه لا بالاحتمالات الحقيقيّة. يشوّه الاستدلال الانفعالي نظرتنا لأنفسنا والعالم من حولنا، حيث تتداخل عواطفنا مع أفكارنا، فبدل أن تصاحبنا مشاعرنا بمواقفنا المختلفة، نجد أنها تقودنا.
مظاهر الاستدلال الانفعالي في حياتنا
فيما يلي أمثلة على هذه المظاهر:
١- تجد صعوبة في تكوين صداقات في بيئة جديدة فتشعر بالوحدة، فتعتقد أنك منبوذ اجتماعيًا مما يجعلك تتوقف عن المحاولة.
٢- تفشل في امتحان ما، فتخلص إلى اعتقاد أنك فاشل أو لم تعد ذكيًا.
٣- تشعر بأنك أخطأت بحق أحد أو أنه منزعج منك، فتعتقد أنك مذنب، رغم عدم وجود دليل على ذلك.
٤- تشعر بأنك غير مهم للآخر، حتى مع وجود أدلة على اهتمامه.
٥- تشعر بالغضب على أحد بدون سبب واضح، فتعتبر أنه فعل شيئًا سيئًا.
٦- تشعر بالخوف من مهمة ما، فتعتبر ذلك دليلًا على أنك ستفشل فيها أو أنك شخص عديم المسؤولية.
يرتبط تفكيرنا العاطفي بماضينا وخبراتنا، فالمشاعر في الأمثلة السابقة هي انعكاس لمواقف أو اعتقادات خاطئة تكوّنت عن أنفسنا والآخرين خلال حياتنا، ولا بأس بوجودها لأنها مصاحبة للمواقف المتكررة التي نخوضها، إلا أنها ترتبط بسلوكنا عندما تجعلنا نتجنب فرص وعلاقات مناسبة، فتبدأ هذه المشاعر تتحول من مجرّد صدى لذكرياتنا إلى دفّة تقود حاضرنا. وكما يوجد في الحياة العامّة، فإن الاستدلال الانفعالي قد يظهر مع عدة اضطرابات نفسية، كنوبات الهلع، حيث يتخذ المصاب شعوره بالخوف دليلًا على وقوع ما يخاف منه، فشعورك بأنك ستفقد السيطرة يجعلك تتجنب المواجهة، وشعورك أنك ستفقد أنفاسك يجعلك تتجنب الأماكن المزدحمة، وتستمر دائرة الهلع تباعًا وفقًا لذلك. كما يظهر مع الرهاب الاجتماعي، فشعورك بأنك غير محبوب، بلا أدلة عقلية وحسية على ذلك، سيجعلك تتجنب الاجتماعات، وشعورك بأنك ستخطئ يجعلك لا تبادر بعرض رأيك. ويظهر مع اضطرابات نفسية أخرى كالاكتئاب والوسواس القهري وغيره.
كيف نقلل من تأثير خطأ الاستدلال الانفعالي على حياتنا؟
١- قبول وجود المشاعر السلبية، أي الاعتراف بها والسماح بوجودها بدل مقاومتها، لكن مع التوقف عن اعتبارها دليلًا حاسمًا.
٢- من المفيد إدراك تأثير الماضي على مشاعرك، فبعض المشاعر هي ردات فعل دفاعية لمواقف تشبه أحداثًا سابقة أشعرتك بالخطر، إلا أن تكرارها في الحاضر لا يعني وجود الخطر القديم.
٣- لا بأس بوجود أكثر من شعور متناقض في تجاربك، كالفرح والحزن بنفس الوقت، والأمان والخوف بنفس الوقت.
٤- لا تنتظر صفاء مشاعرك للمبادرة في أمر ما، أي أن يملؤك شعور الاستعداد والراحة، فذلك يجعلك تتخذ مشاعرك قائدة لك، بينما في الحقيقة لا بأس بوجود الخوف والتردد كجزء من التجربة.
٥- ابحث عن الدلائل والحقائق على شعورك، وبادر بالسؤال والتعبير عن خوفك ومشاعرك قبل الحكم على أساسها.
٦- إذا كنت تمر بمزاج سيء فإن نظرتك للأمور ستتلوّن بهذا المزاج، فحاول ألا تتخذ حكًما أو قراًرا حال تدنّي مزاجك.
٧- أدرك مشاعرك المتكررة، أي راقب المشاعر التي تتكرر باختلاف المواقف والأشخاص، وناقشها مع نفسك: ”هل دائما أشعر بأني ممل وثقيل على الآخرين؟ هل أبالغ في تعميم هذا الشعور في كل مواقفي الاجتماعية مع عدم وجود دليل واضح؟ هل ثبت خطأ شعوري في مواقف عديدة؟“ فقد تكون مشاعرك المتكررة مرتبطة بمخاوفك وليس بحقائق واقعية.
إدراك تأثير الاستدلال الانفعالي على تفسيراتك خطوة فارقة في التعامل مع الشعور المزعج، الأمر أشبه بتعلم لغة جديدة تسهل عليك عملية الفهم والتواصل. ذلك لا يعني السيطرة على المشاعر وإنهاء أثرها، إنما التفرقة -إلى حد ما- بين ما ينبئ عن حقيقة وبين ما ينبغي تجاوزه.
Reference: Beck, A. T. (1976). Cognitive therapy and the emotional disorders. International Universities Press.
* تم نشر المقالة أولًا في موقع جمعية نفس sa.org.nfs/ ١٢/٦/٢٠٢٢