تجربة العلاج النفسي عن بعد قديمة وأقوم بها في السابق، الفرق أنها كانت اختياريّة وفي ظروف معينة، الآن، أصبحت بشكل مباغت هي الخيار الوحيد، في تجربة فريدة لا أظنها -ولا نتمنّى- أن تتكرر. كان الهمّ كله توظيف الإمكانيّات لتيسير العلاج النفسي بثماره المعهودة خصوصًا للحالات التي يتطلّب استقرارها استمرار متابعة، في محاولة للاعتياد على الوضع الطبيعي الجديد الذي لم نعرف متى نهايته. 

وكأي تجربة، ضمّ الأمر سلبيات وإيجابيات، فبينما كانت المواعيد الحضورية سلسة ولها تنظيمٌ روتينيّ، اضطررنا في الجلسات عن بعد لبذل جهد إضافي في التواصل وتحديد المواعيد المناسبة، وهذه كانت العقبة الأولى.


في الوقت ذاته، لهذه التجربة لذة فريدة، حيث سمحت لي وللمراجعين تجربة العلاج النفسي بشكلٍ غير شكله التقليديّ، فبينما كان من الطبيعي أن يحشد المراجع همومه في حقيبته للانطلاق بها إلى المعالج، ويقضي وقت جلسته محاولًا حثها على الظهور، مطمئنًا إياها بكل عبارات التهدئة والأمان والوعود و-الوعيد-، مذكّرًا إياها بأن هذا الغريب -المعالج- ما هو إلا صديق يريد المساعدة، كان العلاج عن بعد حيلة ناجحة لإغراء الهموم للظهور بشجاعة وسط مساحتها المألوفة. وهذه أول إيجابية لمستها هذه الفترة خصوصًا على فئة معينة كانت تفتقد الجرأة ومحدودةٌ حريتها في التعبير.


وباعتبار أن جوهر العلاج هو الحضور، كان لا بد من بذل جهد لتعويض الغياب الجسدي، لأن القدرة على إيصال التعاطف أصعب، حيث كانت إيماءات الوجه والضغط على الكفّ تخففان المهمة، ولعل وجودي في أماكنهم الخاصة يعوض ذلك بشكل حميميّ، الأمر أشبه بدعوتي لبيوتهم واستقبالي بها، بملابس مريحة، وسط امتنان وافر بأننا رغم الصعوبات نستطيع مواصلة العلاج. ولم يخل الأمر من المرونة، حيث أصبحنا لا نهتم بالوقت الرسميّ للعيادة بقدر اختيار أوقات مناسبة، أحيانًا كانت قبل الفجر. كل ذلك كان وسط حدود مهنية قدر المستطاع، باستثناء مواء قطتي طلبًا للأكل:).


نحتاج جميعًا لعزلة اختيارية بين الفينة والأخرى، لكن العزلة الإجبارية لم تكن رحيمة علينا جميعًا، هذا الهدوء الخارجي يُعلي من صوت الداخل، لافتًا الانتباه لما يختلج في سراديب الصدر من أمور ربما تجنبناها وانشغلنا عنها عمدًا، وليست مواجهتها سهلة دائمًا، لذلك كان وجود العلاج عن بعد معينًا على تخفيف أثر هذه الرحلات داخل النفس، وأحيانًا لمست جوانب لم ألمسها سابقًا في العلاج.


الجميل في العلاج عن بعد أنها كانت تجربة إلزامية أكسبتنا مرونة في تقبل هذا النوع من العلاج مستقبلًا، حتى عند من كان يرفض هذا الخيار، من المبهج أن هذا الخيار أصبح متاحًا في أذهانهم تجنبًا لانقطاع العلاج عند صعوبة الوصول للعيادة. كذلك لاحظت أن الأحاديث أصبحت أطول، حيث أن الوقت الذي كنا نقضيه في الترحيب المتبادل أو الشكوى من الاستقبال أو عدم وجود موقف لركن السيارة، أصبح مقصورًا على الحديث عن الهدف الأساسي من الجلسة.


لمست أيضًا بعدًا جديدًا في العلاج كان من الصعب تجربته قبل هذه الفترة، حيث اعتدت في السابق عند بدء التعريض للمخاوف على اختلافها، أن يكون في العيادة، ثم الاتفاق على تكرار التعرض في البيت، الآن أصبح بالإمكان الوجود خلال التعرض للمساندة ورصد ردة الفعل، والتشجيع والتصحيح، الأمر أشبه بتغيير مكان العيادة والتنقّل.


أستطيع القول أن أبرز ما يطفو في ذاكرتي عند تذكر هذه المرحلة، أحد المساءات عندما كنت أحدث سارة*، وكانت تتجول بي في منزلها وتريني غرفتها وأماكن جلوسها، ثم استقرت في غرفتها على السرير وهي تتحدث وبدأت بالبكاء. ولأول مرة لم تكن تبكي هناك وحدها، كل شيء في الموقف كان رتيبًا بالنسبة لعالمها، غرفتها مرآتها جسدها بكاؤها، لكن الفارق أني كنت معها، وأتمنى أن وجودي ذلك اليوم سيجعل من وحشة البكاء لوحدها أقل حدة مستقبلًا.


الآن، وأنا أسمع أصوات السيارات في الشارع العام الذي تطل عليه نافذة غرفتي، بعد أن عادت الحياة إلى مجراها، والذي كان لمدة أربعة أشهر غارقًا في السكون هذا الوقت، أتساءل إلى أي درجة من الممكن أن نتكيّف؟ وإلى أي حد يظلم الإنسان نفسه بالتقليل من ثقته بقدرته على التأقلم؟


*الاسم وهمي.